بوسكورة… حين ينتصر القانون: قراءة هادئة في خلفيات هدم “قصر الضيافة” وإعادة ترتيب أوراق التعمير بإقليم النواصر

أولاً: ضجيج إعلامي… وحقائق عمرانية بلا رتوش

تحوّل ملف ما بات يُعرف إعلامياً بـ”قصر الضيافة” في بوسكورة إلى مادة مثيرة للجدل خلال الأسابيع الماضية، بعدما انخرطت بعض المنابر وصفحات التواصل الاجتماعي في تضخيم غير مسبوق للواقعة، وتقديمها في شكل صراع مفتعل بين “الاستثمار” و“السلطة”. هذا الخطاب العاطفي أغفل عمداً طبيعة الخروقات التي شابت المشروع، محاولاً إظهار صاحبه في صورة “ضحية قرار إداري مباغت”، رغم أن المعطيات التقنية والقانونية تشير إلى أن الأمر يتعلق بمخالفة عمرانية واضحة تم إنجازها داخل منطقة فلاحية محمية.

ورغم سعي بعض الجهات إلى صناعة ضجة عبر اتهامات من قبيل “تصفية الحسابات” أو “عرقلة الاستثمار”، إلا أن الوقائع على الأرض تؤكد أن الملف لم يحتج إلى تضخيم: فالمخالفات بارزة ومسارها طويل، وأن قرار الهدم لم يكن رد فعل ظرفياً، بل نتيجة حتمية لمسار من محاولات الالتفاف على القانون.

ثانياً: الإطار القانوني… أرض فلاحية وقواعد لا تقبل التأويل

يقع المشروع في نطاق مصنف كأرض فلاحية، يخضع لقوانين صارمة تمنع إقامة منشآت فندقية أو سياحية أو قاعات للأعراس. الترخيص الأولي الذي حصل عليه صاحب المشروع كان يتعلق ببناء منشأة بسيطة موجهة لأنشطة الفروسية والإيواء الريفي، غير أن ما شُيّد فعلياً على الأرض تجاوز ذلك بكثير، ليشمل بنايات مترامية تستعمل كقاعات للأعراس، في تناقض صريح مع مضمون الترخيص ومع تحديدات الوثائق التعميرية.

وفي سنة 2022، قامت السلطات الإقليمية بسحب الترخيص بعد رصد انحرافات جسيمة، ومنحت مهلة لتسوية الوضع. إلا أن الأشغال استمرت بوتيرة متسارعة، في خرق مباشر لمقتضيات القانون 66.12 المتعلق بمراقبة وزجر المخالفات في ميدان التعمير.

وبالتالي، لم يكن قرار الهدم قراراً استثنائياً ولا أحادياً، بل تطبيقاً صارماً لنصوص قانونية ملزمة، هدفها حماية الطابع الفلاحي للمنطقة وتحصين المجال من أي مضاربة عقارية مقنّعة.

ثالثاً: ما بين الاستثمار الحقيقي… والتجاوزات المقنّعة

يحاول البعض تقديم الهدم على أنه “ضربة للاستثمار”، غير أن هذا الطرح يتجاهل أن الاستثمار السليم يقوم على احترام التصميم والوثائق التعميرية والمساطر الإدارية. أما المشاريع التي تبنى على تجاوزات أو ادعاءات أو ترخيصات تُستعمل خارج سياقها، فهي لا تدخل ضمن الاستثمار المنتج بل ضمن اقتصاد الريع الذي تسعى الدولة اليوم إلى تجفيف منابعه.

كما أن المعطيات المرتبطة بملف المشروع — من ادعاءات حول علاقات ونفوذ، وانتحال صفات، ومحاولة الالتفاف على أداء الرسوم المرتبطة بالأراضي غير المبنية — أثارت الكثير من علامات الاستفهام. يضاف إلى ذلك عدم إثبات وجود نشاط فندقي فعلي أو تصنيف سياحي، إذ أظهرت المعاينات فضاءات مُهيأة لقاعات أعراس لا غير، فضلاً عن غياب أي مؤشرات مهنية حول تشغيل الأعداد الضخمة من اليد العاملة التي تم الترويج لها إعلامياً.

كما سُجلت مؤاخذات تتعلق باستغلال ورش غير مرخص وتعريض العمال للخطر، في غياب أي تتبع من المهندس المعماري المسؤول قانونياً، أو أي توضيح من هيئة المهندسين، ما يضع الرواية المُسوّقة تحت مجهر الشك المهني والقانوني.

رابعاً: درس في الحكامة… بوسكورة كنموذج لمرحلة جديدة

أبرز ما كشف عنه هذا الملف هو أن المغرب يسير نحو مرحلة جديدة من الصرامة في تدبير العمران. فقرار عزل رئيس جماعة بوسكورة وثلاثة منتخبين بسبب اختلالات في منح الرخص، بالتوازي مع تنفيذ قرار الهدم، يؤكد أن الأمر لا يتعلق بإزالة بناء فحسب، بل بإعادة ترتيب منظومة التعمير داخل الإقليم.

ومن أهم الدروس المستخلصة:

  1. نهاية “التساهل العرفي”: القرارات الإدارية أصبحت ذات أثر ملزم لا يقبل المساومة.
  2. تعزيز دور الرقابة على المنتخبين: توقيع الرخص مسؤولية قانونية مباشرة.
  3. حماية الأراضي الفلاحية: لا مجال لخلق مشاريع تُكيَّف بعد بنائها مع محيط لا يسمح بها.
  4. ترسيخ الثقة بين المواطن والدولة: تطبيق القانون على الجميع دون استثناء يعزز الشعور بالعدالة.
  5. تفعيل قانون 66.12: جعل الإقليم نموذجاً في ضبط المجال العمراني ومحاربة العشوائية المقنعة.

لم يكن “كرملين بوسكورة” مجرد ورش مخالف، بل اختباراً لقدرة الإدارة على فرض احترام القانون. وقد نجحت سلطات إقليم النواصر في تحويل هذا الملف من ضجة افتراضية إلى درس عملي في الحكامة، يؤسس لمرحلة عنوانها: القانون فوق الجميع… والاستثمار الحقيقي هو ذاك الذي يحترم الدولة قبل أن يطلب دعمها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *