إشكالية النهضة في العالم العربي
عبد الجبار تغرمت
طالب باحث
مازال سؤال النهضة يشكل سؤالا حرجا (لماذا تأخر العرب وتقدم الغرب؟) حاضراً بقوة منذ بدايات القرن الماضي.. والإجابات عليه – على تنوعها واختلافها وتمظهراتها الفكرية منها وكدا الأيديولوجية – تتوارد بأشكال وأنماط فكرية وأبعاد مفاهمية متنوعة ومتعددة لكن جلها جاء بصيغة مشاريع نهوض تقدمية أسست فكرياً ومعرفياً – وبحسب مرتكزات ومرجعيات تلك المشاريع – لتصورات الحالة المنتجة الفعالة لواقع العرب المنشود والمأمول منه أن يكون نافعاً ومثمراً على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية
والملاحظ أن كل تلك المشاريع – على تباين وتعدد مرجعياتها القومية أو اليسارية أو الدينية الإحيائية – اجتمعت على اعتبار أن أزمة التقهقر الحضاري التاريخي العربي الممتدة منذ أكثر من ألف عام هي في الأساس ذات امتدادات بنيوية ثقافية ومعرفية بامتياز… ولكنها – مع اتفاقها في بعض مقدمات الرؤى التنظيرية نسبياً – اختلفت وتباينت حول طبيعة مضامين طرق معالجات الأزمة (المرض الحضاري)، ومتطلبات حلها، وفك عراها المعقدة، وبالطبع من دون نتائج عملية حقيقية على صعيد الإنسان والتنمية والاقتصاد، إلا في حالات نادرة تمثلت في نوع من الرخاء والرفاه الاستثنائي الذي عاشته بعض دول الخليج العربي نتيجة اقتصاداتها الريعية
ولكن الكل (كل مشاريع النهوض الآنفة الذكر) كان يؤكد وينظر بأن عملية تغيير بنى مجتمعاتنا (الراسخة) – بمختلف مكوناتها وشيفراتها الفكرية والمعرفية والثقافية، ومختلف مآلاتها السلطوية شبه الدائمة منذ أيام وزمانات بحاجة ماسة إلى جهود فكرية بنيوية نقدية مضنية وحثيثة من الاشتغال على نقد الذات الحضارية المريضة، واجتراح أسس الحل، وذلك للقيام لاحقاً بكل مقتضيات وإجراءات التحولات البنيوية في طبيعة العقليات والمفاهيم، وفي أنماط الوعي والسلوك والتفكير والتخيل
ولكن يبقى السؤال مشروعاً ومفتوحاً بالفعل طالما أننا لانزال نقبع في الهامش والمتون الحضارية على مستوى العلم والتطور والحداثة التقنية: لماذا لم يتمكن العرب – بعد تشخيص الداء والمرض والوقوف على سبل وطرق العلاج الممكنة – من السير ولو خطوة واحدة على طريق التطور والتقدم التاريخي لبناء مواطن سليم معافى عقلياً ومادياً، منتج ومؤثر علمياً وتقنياً، وحاضر بقوة فكره وعلمه ومخترعاته ومكتشفاته، في معادلة الحضور الكوني العالمي مثل باقي حضارات وأمم العالم المتقدم؟! ولماذا لم تتمكن سلطات ونظم الحكم العربي من بناء وطن مقتدر قوي حصين ومنيع… مع أنها رفعت شعارات التقدم والتطور والاكتفاء الذاتي؟ ولماذا فشلت كل أو معظم خطط واستراتيجيات التنمية الداخلية لتلك البلدان التي باتت لشدة الفشل الذريع تعتمد – بصورة شبه كلية – على المصادر الخارجية تمويلاً واقتراضاً واستثمارات كنتيجة طبيعية لغياب تلك السياسات الاقتصادية والاجتماعية العامة، والعجز ربما – في حال وجود بعض تلك السياسات والبرامج التنموية – عن استثمار واستنفار كل القدرات والمواهب والإمكانات البشرية وقدرات الفئات الوسطى وأصحاب المهارات والكفاءات في عملية التنمية الحقيقية؟
ومع وجود تطبيقات وتجارب عملية محددة كمّاً ومحدودة نوعاً لبعض خطط التنمية ذات الطابع الاشتراكي، أو تلك التي اعتمد فيها على اقتصاد السوق (غالباً ما كانت ذات تجارب ريعية الطابع تقوم على تجميع وتكديس المال والعملة الصعبة ضمن صناديق «سيادية» جراء بيع مواد خام كالنفط والغاز وغيرهما من دون وجود صناعات ثقيلة ذات امتدادات متجذرة في بنية الدولة والمجتمع، ومن دون امتلاك زمام المبادرة العلمية والتقنية فيها)… كل ذلك لم يمنع للأسف من زيادة رقعة ومساحة وحجم بقع الفقر العملاقة، ولا في إنقاص معدلات البطالة المرعبة، خاصة لدى العناصر الشابة المتعلمة في بلداننا العربية، وحتى منها تلك البلدان والدول الغنية بالثروات النفطية نتيجة الطغيان السياسي، وسوء إدارة الموارد، وهيمنة عقلية الفساد
وهذا الفقر (أو التفقير) الشامل والعميم والتخلف المقيم لا نعتقد أن محاربته تنجح وتتم بصورة مضمونة النتائج إلا في ظل وجود مناخ سياسي حر ومنفتح، تتم فيها وبسلاسة عملية توطين العلم والمعرفة العلمية والتكنولوجيا، والدخول في عالم صناعة وإنتاج السلع والخدمات المطلوبة في الاقتصاد المعولم الذي نعيش فيه
وقد أثبتت التجربة التاريخية العربية مع الغرب، ومع مختلف دول العالم المتقدم، أن الرهان على الدول المتقدمة خاصة الغربية منها، هو رهان على حصان خاسر إلى حد كبير من دون وجود مبادرات عربية داخلية يمكن أن تشكل أساساً لكي يساعدنا الآخرون (وهذا من حق هذا الغرب)، بما يعني أن الاعتماد كلياً على الخارج لا معنى له، لأنه سيجعل من بلداننا رهينة لزمن هذا الآخر الغادر، وسيبقيها في ثلاجة الانتظار وحالة تخلف مغطاة بقشرة حداثوية شكلية لا تغني ولا تسمن من جوع