التشكيل المؤثث بصيغة المؤنث
الاستاذ و الناقد حسن بوسلام
التشكيل هو في الحقيقة إعادة بناء العالم من خلال نظام فني يقوم على مساحة اللون في بعده الرمزي ،وقواعد خط تخترق المألوف الهندسي وتجعل من القراءة البصرية اداة تشكيل ذهني تتمم الرؤية الفنية وتكشف اسرار اللون الذي يواري في شكله المرسمي المعنى الخام الذي انطلق منه الفنان .
اذا رجعنا الى كتاب قيم قدم خدمة كبيرة للفن التشكيلي،وهو أسرار الفن التشكيلي للدكتور محمود البسيوني،نجده يقول في مقدمته “”الفنان التشكيلي بعينه المكتشفة يحيل ركام الفوضى الظاهرة الى نظام لكنه ليس نظاما متعارفا عليه إنه نظام اللانظام له منطقه التجريدي التشكيلي،،(ص16) فعلاً هو نظام يتنفس من مخيلة لها مرجعيتها الفنية البانية للمشهد التشكيلي ،معتمدة على فلسفة المساحة التي تكسر كل الحدود الفاصلة بين النظام واللانظام بين القانون والفوضى بين اللون الصامت واللالون كلغة تشكيلية تخاطب الذهن وتستفز الحواس.
2/بعد البدء كان التشكيل المؤثث بصيغة المؤنث
عندما نقول تأثيث نستحضر النظامية في الاختيارات والابتعاد عن العشوائية لكن عندما نضيف عليه ضمير النسوة يعني هذا أن هناك اضافة في الحمولة الوجدانية وعمق احساسي له ما يبرره اثناء بنينة الصورنة التشكيلية واعطائها البعد الفني الخاص بها.
أربع لوحات ثلاث منها تمثل المدرسة التجريدية ،وهي لوحة الفنانة انتصار الغربي،وسامية ورضان،ونادية اوصالح توفيق ،والرابعة تمثل الانطباعية ،وهي الوجه الافريقي للفنانة ملاك الشاوي،، سنتعامل مع اللوحات كلوحة واحدة وان إختلفت المدارس،لان ما يهمنا هو رصد القواسم المشتركة والرؤى الفنية التي تعبر عنها كل لوحة في وحدة تشكيلية تمتح من تجارب مختلفة ،
أول ملاحظة هو التوظيف اللوني الذي يناسب الفكرة المرسمية ،اي الفكرة الخام التي تنطلق منها كل فنانة،نرى الالوان الغامقة والتي رتبتها الفنانة انتصار باحكام الاحمر الذي يحيلنا الى النار من داخل حفرة بين الاحمرار اختلاط الالوان والذي يطغى عليها الازرق والأخضر،هنا تتعدد التاويلات وفي هذا التعدد متعة لاحد لها،انه صراع بين الذات المحترقة والذات الحالمة التي تبحث عن منفذ لها،ولو تاملنا جيدا خلف الالوان لرأينا جسدا يصارع للخروج من هذا الاحتراق له وجه يشهد على هاته المعاناة.
أما إذا انتقلنا إلى اللوحة الثانية وهي للفناتة سامية ورضان ،سنرى لمسة أخرى ،هيمنة الازرق على فضاء اللوحة بتشكلاته المختلفة باللغة اللونية التي اختارتها الفنانة (الازرق الفاتح والأزرق الغامق )والتي نراها في أغلب لوحاتها تمثل رؤية فنية تعبر عن فلسفة البحث الدائم عن الحقيقة الضائعة في عالم قريب إلى التكعيبية حيث تحضر الخطوط العمودية والافقية والمائلة ،نلاحظ الخط المائل (قلم أو عصا او… )والذي يخترق في جزئه الازرق يوهمنا بانه هو الذي يشكل هاته اللوحة ويبني معالمها الهاربة بين ثخوم خطوط ترسم اشكالا غريبة من خلال فوضى من داخل النظام ،ان لقاء اللون بالخط وبالمساحة ،مع الشكل الذهني الذي حملته الفنانة في فرشاتها خلق نوعا من التوازن في المشهد التشكيلي واعطى انزياحات في الصورة والتي خلقت توترا بصريا أثناء القراءة،اضف إلى الاجزاء التشكيلية التي وضعتها في كل جزء من اللوحة كي تعبر عن قلق وجودي يبحث عن حالة استقرار في المد المائي والسماوي الذي اختارت منه اللون المؤسس للبعد الفني التشكيلي.
بانتقالنا إلى اللوحة الثالثة للفنانة نادية اوصالح توفيق ننتقل إلى فضاء لوني له خصائصه المرسمية،اذ نجد مشهدا يؤسس لمشهد اخر،فلو تاملنا اللوحة جيدا لوجدنا ثلاث صور متداخلة في بينها في تناسق رائع،ممثلة لمسة تكعيبية جميلة فيها المساحة التي تستثمر لتقدم خيالات ظل مشهد يترك باب التأويل مفتوحا على مصراعيه ،فاللون هنا في مستواه المتعددة (الازرق الباهت والغامق والرمادي والابيض )كلها ألوان مرتبطة بالتراب أي الأرض التي تحرك الجسم الذي يخرج من رأسه رأسان،انها الولادة الحقيقية الانسان ولادة من العقل المفكر والمنظم للحياة تاركة نوافذ صغيرة بلون أبيض منها تكون الرؤية لكن الخطوط الصغيرة التي توهمنا بالكتابة هي مفتاح المعنى الذي توارى خلف الاشكال الثلاثة في فضاء يفسح للعين لملمة هاته الاجزاء واحتوائه في صورة واحدة.
الوجه الإفريقي كان حاضرا في الفن التشكيلي لأنه يحتوي على لمسات فنية تشجع الفنان على تمثله وذلك من خلال الالوان المتنوعة والجدابة التي تضفي على اللوحة طابعا جماليا ،وهذا ما نلامسه في لوحة الفنانة ملاك الشاوي،ولقد سبق لي أن تعاملت مع أصناف هاته الاشكال في دراسات لي .
الوجه المبتسم والذي ينظر في اتجاه آخر ذو البشرة السوداء وحده كاف لامتاع الذائقة البصرية وإن كنا في وهم التقاط جنس محيا الصورة لاننا في لحظة نراه امرأة لكن التأمل الدقيق فيه مؤشرات كونه رجلا ،وان كانت الشفاه حمراوتان فهذا لآ يعني أنه وجه امرأة،،،هذا موضوع آخر يترك للتاويل العميق ،لكننا امام لوحة فيها كرنفال الألوان التي تحيلنا إلى الثقافة الأفريقية حيث يحضر الاصفر بقوة والبرتغالي،والاسود والبنفسجي،وهذا ما التزمت به فنانتنا وهي تحيك بفرشاتها ملامح هذا الوجه.
3/تركيب لانهاء القول….
يجب أن أبين أن كل تأويل في فضاء التشكيل هو بمتابة مغامرة ،لان قواعد التأويل أثناء القراءة البصرية تنفلت عن القارئ،وهذا طبيعي لانه حتى الفنان نغيب عنه الفكرة عندما ينتهي من لوحته ،فتصبح هاته الأخيرة هي الحمالة لاوجه المعنى ،لان أي عمل يكون فيه فيض من المعنى كما قال ديكرو ،وهذا ما يجعل العمل الفني تحفة تحيا بالقراءة وتموت دونها.
لا غرابة أن اللوحات الثلاثة هي بمتابة تفسير للوجود وذلك من خلال الاستقساط الاربعة التي وضعها ارسطو لاصل الوجود،فاللوحة الأولى النار والثانية الماء والثالثة التراب الارض والرابعة الهواء الذي يتنفس منه اللون كي يعطينا ذلك الوجه الإفريقي.
هو تأثيث فيه لمسات التأنيث المبدع الذي يقدم عملا فنيا يجعل من الفوضى نظاما ومن هذا النظام فوضى المعنى التي تمتع القارئ البصري وتجعله يتذوق اللون في منتهى رمزيته.