“تِلفريك” سيدي إفني .. معلمة الاستعمار الإسباني تقاوم مياه البحر

تظهر بقاياه للعيان من بعيد، شامخة في مواجهة أمواج المحيط الأطلسي، وتقلبات المناخ على شاطئ مدينة سيدي إفني، بالجنوب المغربي.. إنه “التلفريك” الذي يعتبره سكان المدينة من أهم المعالم التاريخية الفريدة في العالم، التي خلفها الاستعمار الإسباني لأكثر من قرن. وشكّل “التلفريك” الذي أُطلق عليه اسم “سانتا كروز دي مار بيكينيا” خلال الحقبة الإسبانية (1860-1969)، شرياناً تجارياً مهماً، ومعبراً حيوياً للبضائع والمسافرين يربط السفن القادمة من إسبانيا بالبر، فضلاً عن أنه كان بديلاً للميناء البحري الذي لم تستطع السلطات الإسبانية تشييده حينها، لأسباب تتعلق بظاهرة الترمل (تجمع الرمل بكثافة على الشاطئ) التي تعيق رسو السفن على شواطئ المنطقة .
anadoul
وبدأ العمل في هذا المعلم عام 1962، من خلال شركة فرنسية متخصصة، بتكلفة مالية قُدرت آنذاك بأكثر من أربعة ملايين دولار، لصالح “المديرية العامة لأقاليم إفريقيا الغربية”، وهي الجهة الإسبانية الرسمية المالكة للتلفريك حينها، بحسب تقرير لوزارة الثقافة المغربية، حصلت الجريدة على نسخة منه”

واُعتبر “التلفريك”، حينها، من المشاريع الكبرى المنجزة في المستعمرات الإسبانية بأفريقيا، وتم نقل مواد البناء الأساسية من جزر الخالدات (التابعة لإسبانيا وتقع قبالة السواحل المغربية بالمحيط الأطلسي) عبر السفن، واستغرقت الأشغال فيه أكثر من ثلاث سنوات، ليدخل المشروع في الخدمة عام 1965، بحسب المعطيات الموثقة في التصاميم التأسيسية للمشروع والتي اطلع عليها مراسل الأناضول، وتتوفر جمعية “مار بيكينيا للسياحة الثقافية” في سيدي افني على نسخ منها.

واستمرت خدمة “التلفريك” لغاية عام 1975، بعد ست سنوات من إعلان استقلال سيدي إفني، ومنذ ذلك الحين ظل عرضة للإهمال والنسيان، وتم تعويضه بميناء عصري أُنشأ سنة 1989، بحسب ما أورده تقرير ميداني لوزارة الثقافة. واليوم، لم يبق من هذا المعلم إلا الأبراج الإسمنتية الضخمة، منتصبة لوحدها بدون الكابلات التي تربط بينها، أما عرباته المتهالكة، فلا تزال معلقة بصفائح حديدية صفراء أنهكها الصدى والرطوبة والإهمال داخل البناية الرئيسية في سفح الجبل المطل على ميناء سيدي إفني.

يقول رئيس الجمعية، محمد سالم الطالبي، للأناضول إن “السبب الأساسي لإنشاء التلفريك من طرف السلطات الإسبانية حينها، هو خطورة المغامرة في الاستثمار في إنشاء ميناء بحري، لأن المنطقة معروفة بظاهرة الترمل، التي تعيق حركة السفن، وهذه المشكلة لا تزال تعاني منها موانئ الجنوب، وتؤدي إلى استنزاف موارد مالية ولوجستية كبيرة”. ويضيف الطالبي أن “التلفريك” قادر على القيام بمهامه من جديد لو تم ترميمه، وإعادة تأهيله وتشغيله، وأن الاستثمار فيه كمشروع من زاوية تاريخية وثقافية يمكن أن يعود بالنفع على المدينة”.

ويتكون “التليفريك” من عربتين، واحدة في الأعلى يمكن أن تنقل أكثر من 300 مسافر في الساعة، وأخرى في الأسفل تنقل أكثر من عشرة أطنان من البضائع، على مسافة تقدر بـ1300 متر، عبر كابلات ضخمة تحمل العربات التي تشتغل بمحرك كهربائي بقوة عالية. وتخترق الكابلات أعمدة ضخمة مشيدة بالإسمنت المسلح، ويبلغ ارتفاعها 63 متراً، وتربط البر بقاعدة إسمنتية مشيدة في عرض البحر على شكل جزيرة اصطناعية صغيرة، بُنيت أساساتها بعمق 13 متراً، تحت مياه المحيط، وكانت مخصصة لاستقبال السفن التي ترسو بالقرب منها بعيداً عن رمال الشاطئ.

ولا تزال هذه القاعدة البحرية صامدة تقاوم مياه البحر، وتضم رافعات لنقل البضائع من السفن إلى عربات “التلفريك”، وأعمدة تربطها كوابل حديدية ضخمة. وخلال السنوات الأخيرة، برزت في سيدي إفني، دعوات من شباب وجمعيات، لإعادة الاعتبار للبنايات التاريخية الاستعمارية، والمطالبة بتصنيفها ضمن التراث الوطني.

ويشير الطالبي أن الجهات الرسمية المغربية تعطي حالياً أهمية لهذه المعالم التاريخية، وتقوم وزارة الثقافة بالشراكة مع جمعيات المجتمع المدني، وبلدية سيدي افني، بمجهودات لتصنيفها ضمن التراث الوطني. ويدعو كثيرون إلى تأهيل معلم “التيلفريك”، وإعادة تشغيله، كمشروع سياحي وثقافي يحافظ على الذاكرة، ويعود بالنفع الاقتصادي على المنطقة.

إبراهيم الإفناوي، أحد الشباب المهتمين بهذا المشروع، يقول للأناضول إن “تليفريك سيدي إفني”، “يشكل استثناء في أفريقيا، وله قيمة تاريخية واقتصادية كبيرة”، ودعا الإفناوي إلى إعادة تأهيل هذا المشروع لأغراض سياحية وترفيهية، متوقعاً أن يكون حلقة وصل بين سيدي إفني والمدن السياحية الجنوبية كمدينة أكادير وغيرها، من خلال جولات سياحية بحرية. ورأى أن إعادة تشغيل المشروع سياحياً “لن تكون تكلفته مرتفعة جداً، لأن نسبة كبيرة من قاعدته متوفرة على الأرض وصالحة للاستخدام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *